في بداية هذا العام، كان يُعتقد أن إسبانيا حالة سياسية استثنائية في أوروبا، باعتبارها بلداً محصناً ضد «اليمين» المتطرف. لكن بعد أن انفتح الباب أمام حزب «بوكس» لدخول البرلمان في أبريل وحل في المرتبة الثالثة في الانتخابات القومية يوم الأحد الماضي، لم تعد إسبانيا استثناء في هذا المجال. فقد أصبحت من الدول الأوروبية الكبيرة التي يكسب فيها «اليمين» المتطرف أرضاً بأكبر سرعة. فبعد أن فاز حزب «بوكس» بنسبة 15% من المقاعد في البرلمان- في أفضل أداء لليمين المتطرف منذ انتهاء الاستبداد في إسبانيا في السبعينيات- قال زعيم الحزب المنتشي بالانتصار «سانتياغو أباسكال» للناخبين:«كنتم نجوم أعظم عمل سياسي وأكثرها تألقاً في ديمقراطية إسبانيا».
وحصل الحزب الاشتراكي في انتخابات الأحد الماضي على معظم الأصوات. لكن الانتخابات لم تترك طريقاً واضحة لأي حزب في «اليمين» أو «اليسار» يمكنه أن يشكل بسهولة حكومة في نظام إسبانيا المتشظي. فقد حصد الحزب الاشتراكي بزعامة القائم بأعمال رئيس الوزراء «بيدرو سانشيث» 120 مقعداً من 350 مقعداً في مجلس النواب. وحل «الحزب الشعبي» من يمين الوسط الذي تطارده فضائح فساد في المرتبة الثانية حاصداً 88 مقعداً. بينما حصد حزب «بوكس» 52 مقعداً، مقارنة مع 24 مقعداً حصدها في الانتخابات البرلمانية السابقة. ورغم أن النتائج تعد بأن يستمر المأزق السياسي لشهور، لكنها تطرح جانباً الحكمة التقليدية الراسخة منذ فترة طويلة في السياسة الإسبانية، ومفادها أن ذكريات استبداد فرانشيسكو فرانكو تقيد جاذبية اليمين المتطرف.
ويرى خبراء أن «بوكس» نجح في تقديم نفسه على أنه مدافع عن وحدة البلاد، مواجهاً المسعى الانفصالي لإقليم كاتالونيا، وهي أزمة سريعة التقلب لم تستطع أحزاب التيار الرئيسي حسمها. وحصل «بوكس» أيضاً على بعض الدعم بسبب رد الفعل المتواضع تجاه قضايا الهجرة والحروب الثقافية. والحزب مناهض بشكل صارم للمسلمين ويتخذ موقفاً متشدداً من حقوق الحركة النسوية. ويمثل الحزب جانباً من نهج عمل الرئيس دونالد ترامب، وبعض جوانب خطابه بشأن الهجرة يشبه خطاب الأحزاب القومية الأخرى في أنحاء أوروبا. فقد هنأ اثنان من أبرز زعماء اليمين المتطرف في أوروبا، وهما الإيطالي ماتيو سالفيني والفرنسية «مارين لو بان»، الحزب على توتير على حسن بلائه في الانتخابات.
لكن صعود الحزب قام قبل كل شيء على قضية خاصة بإسبانيا. ويرى «خوان رودريجيث تيرول» أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة فالنسيا، أن «بوكس مرتبط بالأساس بعوامل محددة تتعامل مع الصراع الكاتالوني، مما يجعل بوكس مختلفاً نوعاً ما، مقارنة بالأحزاب الأخرى في اليمين المتشدد». وبينما حاول رؤساء الوزراء الإسبان من اليمين واليسار التصدي للحركة المؤيدة للاستقلال، جادل السياسيون من حزب «بوكس» أن البلاد لم تستخدم كامل قواها للتعامل مع التهديد الانفصالي. وفي الأسابيع السابقة على الانتخابات عاد محتجون في كاتالونيا إلى الشوارع في صورة احتجاجات عنيفة أحياناً، وهي الصور التي تمت مشاركتها على نطاق واسع وسط الناخبين الإسبان من أقصى اليمين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي الفترة السابقة على التصويت أعلن «أباسكال» أنه يريد اعتقال «يواكيم تورا» الرئيس الإقليمي لكاتالونيا، لانتسابه إلى جماعات «إرهابية» ضالعة في الاضطرابات العنيفة. وصرح أنه يجب تجريد كاتالونيا من درجة الحكم الذاتي التي تتمتع بها حالياً. وفي إحدى المناظرات، أشار «أباسكال» إلى «الإنفاق التبديدي» على حكومات إقليمية ذاتية الحكم وحذر من أن الإنفاق يعرض المعاشات للخطر. ولم يطعن أحد من زعماء الأحزاب الآخرين في حجج «اباسكال»
وانشق «أباسكال» عن الحزب الشعبي من يمين الوسط ليؤسس حزب «بوكس» عام 2014. و«أباسكال» ينحدر من إقليم الباسك الشمالي الإسباني المضطرب من قبل، ونشأ في أسرة سياسية مهددة من جماعة إيتا الانفصالية المسلحة التي قتلت أكثر من 800 شخص، بما في ذلك قضاة وصحفيون وسياسيون، في حملة من أجل الاستقلال.

ومساء يوم الأحد، ردد أنصار «أباسكال» الهتافات والأغاني التي تعود إلى بداية سبعينيات القرن الماضي أمام مقر الحزب في مدريد. وصرح أباسكال: «أبلغنا اليسار أن القصة لم تنته، وأن ليس لهم تفوق أخلاقي. لنا الحق نفسه الذي لهم لأن يجري تمثلينا دون وصمنا بالعار، كما فعلوا في وسائل الإعلام. لقد ساهمنا في تحسين الديمقراطية الإسبانية».

*مراسل بلومبيرج في روما
**مراسل بلومبيرج في مدريد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»